فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار

حين نلقي نظرة على الدراسات التي أنجزت حول فلسفة العلوم عند باشلار، نجد أنها تتميز بميزتين لهما دلالة. فهذه الدراسات متنوعة بقدر ما هي متعددة. أن مؤلفيها يصدرون عن وجهات نظر فلسفية وإيديولوجية مختلفة، وهو الأمر الذي يجعلنا أمام قراءات وتأويلات مختلفة لفلسفة العلوم الباشلارية.
هذا الاهتمام، وهذا الاختلاف في التأويل يدلان، لاشك في ذلك، على المكانة الخاصة التي تحتلها فلسفة العلوم الباشلارية ضمن الفلسفة الفرنسية المعاصرة.
ومن هدفنا في هذه الدراسة التي نقدمها عن باشلار أن نفسر تلك المكانة الخاصة ببيان مظاهرها وإبراز عواملها. غير أنه لن يسعنا بلوغ هذا الهدف دون أن نبين في زية بيئة فلسفية بصفة خاصة ونظرية بصفة عامة نشأت فلسفة باشلار وانتدبت نفسها للقيام بمهام نظرية معينة.
من الواضح بهذا الصدد أن لدى باشلار دعوة لا إلى موقف فلسفي جديد فحسب بل إلى التجديد في الموقف الفلسفي بصفة عامة. لكل فيلسوف الحق في أن يدعو إلى موقف فلسفي جديد، ولكن ليس من حظ أي فيلسوف أن يجد دائما، مثلما كان الأمر بالنسبة لباشلار، الدعامة التي يعتمد عليها في دعوته. والأساس الموضوعي الذي استند إليه باشلار هو الثورة العلمية المعاصرة التي بدأت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر واستمرت خلال القرن العشرين. لقد عاصر باشلار جزءا كبيرا من هذه الثورة وعاين الأثر العميق الذي أحدثته في المفاهيم العلمية والفلسفية على السواء. وكانت المهمة التي انتدب باشلار نفسه للقيام بها هي أن يعمل على إبراز القيم الجديدة التي حملتها معها تلك الثورة العلمية، بل أنه يجعل من هذه المهمة ما ينبغي أن ينجزه ميدان بأكمله هو فلسفة العلوم. يتضح هذا الأمر من المؤلف الأول لغاستون باشلار الذي يحاول فيه أن يبرز الصورة الجديدة للمعرفة الإنسانية كما تظهر لنا من خلال تطور المعرفة الفيزيائية المعاصرة.
أما مهمتنا نحن فإنها ستكون متابعة النصوص الباشلارية لكي نتعرف من خلالها على مدى قدرة فلسفة باشلار على إنجاز المهمة التي انتدبت نفسها لها، وعلى مدى ما وصلت إليه في إبراز القيم الجديدة. سيكون علينا أن نحكم بمدى ما وصلت إليه في إبراز القيم الجديدة. سيكون علينا أن نحكم بمدى مطابقة التعبير الفلسفي عن قيمة النتائج العلمية مع هذه النتائج ذاتها. وبطبيعة الأمر، فإنه لن يمكننا إصدار هذا الحكم إلا بعد أن نعرض لتفاصيل الموقف الباشلاري في الفصول اللاحقة من هذه الدراسة. على أن هذا لن يمنعنا من أن نقوم في تمهيدنا لفلسفة العلوم الباشلارية بعرض وجيز عن الثورة العلمية المعاصرة التي كونت كما أشرنا إلى ذلك سابقا الأساس الموضوعي الذي استندت إليه الدعوة الباشلارية...